المدينة
                                المدينة ليست حجارة متراكمة ولا شوارع تتقاطع في انتظام رياضي. المدينة هي نص كبير، كُتب في العلن وقرأناه في الخفاء. كل شارع فيها جملة، كل حي فقرة، كل ميدان سؤال مؤجل. وإذا كان الفضاء يعيد تشكيل الفرد، فإن المدينة هي الماكينة الكبرى التي تُنتج الوعي، تُهندس الرؤية، وتُعيد توزيع الحلم. أدونيس حين كان يتأمل المدن، لم يكن يرى العمارة، بل يرى كيف تتحول المدينة إلى مرآة للسلطة، إلى مسرح يعيد تمثيل الأسطورة القديمة: الإله، الكاهن، الشعب. عبد الرحمان منيف لم يكتب المدن بل كتب احتلالها، كتب كيف تنبت من قلب الرمل مدينةٌ مشيدة وفق مقاس السلطة، لا تقبل الانحراف، لا تسمح للفرد أن يضيع، ولا أن يبتكر طريقه الخاص. المدن عند منيف تُنتج الفرد كما تُنتج الخرائط: بحذر، وفق نظام صارم. وطاهر لبيب، إذ يسائل اللغة والسلطة، يجعل من المدينة فضاءً ثقافيًا مشحونًا بالرموز. المدينة ليست بنيانًا، بل منظومة خطاب. حتى الأرصفة تتكلم، حتى النوافذ تشارك في صنع المعنى. المدينة تُربينا، تُؤطر وعينا، وتُعيد إنتاج موقعنا في السلم الاجتماعي من خلال ما نراه، وما لا يُسمح لنا برؤيته. في المدينة، الفضاء ليس مجرد مكان، بل أداة أيديولوجية. الحديقة العامة ليست فسحة للجمال فقط، بل هي صورة للمراقبة الناعمة. المركز التجاري ليس فقط تجمعًا استهلاكيًا، بل هو شكل جديد للانتماء الطبقي، لتمييز من يحق له أن يطل على الواجهة الزجاجية ومن يُقصى إلى الزقاق الخلفي. حتى إشارات المرور تحمل فلسفة: الطاعة، الانتظار، المرور وفق ضوء السلطة. إن ربط الفضاء بفلسفة المدينة يجعلنا ندرك أن كل حركة داخل المدينة هي فعل فلسفي، وأن كل قرار في توزيع الفضاءات هو تعبير عن رؤية معينة للإنسان، للحرية، للعيش. المدينة تُربينا على الإيقاع الذي تفرضه. تجعلنا نمشي كما تشاء، نجلس كما تشاء، نحلم في حدود ما تسمح به. وإذا كنا نريد فضاءً إنسانيًا، فعلينا أن نعيد الحلم بالمدينة. لا المدينة المخططة وفق الخرائط، بل المدينة التي تنبض بالفوضى الخلاقة، التي تسمح للغريب بأن يتكلم، وللشاعر بأن يخطئ، وللفرد بأن يضيع دون أن يُعاقب. أن نُحرر المدينة من يقينها المعماري، ونفتحها على احتمالات جديدة: مدينة لا تُعيد إنتاج السلطة، بل تُعيد إنتاج الحياة. هكذا، يصير ربط الفضاء بفلسفة المدينة ليس تمرينًا نظريًا، بل مشروع تحرر كامل، من الطوبوغرافيا، من اللغة، من الخوف.
Jawad-elyosfi ads
                                    Jadlaw