الشعر

الشعر

في مكان لا تحده خريطة ولا تسري عليه قوانين الزمان ولا تفسره معادلات الفيزياء ولا تفكك غموضه أدوات العقل، هناك يولد الشعر. يولد لا من رحم اللغة وحدها، بل من صرخة الروح الاولى، من ارتجاف الوعي حين يلامس المجهول. هناك حيث تسكن الارواح الساكنة والهائمة، الطاهرة والشريرة، حيث الجن يبنون مدنهم من رماد الضوء، والسحرة يرسمون على جلودهم أسماء منسية، هناك يتنفس الشعر، لا كنص بل ككائن حي يتقلب في ليل الغيب. الشعر بالنسبة للارواح ليس زينة للقول، بل هو طقس قديم، اقدم من النار واكثر صدقا من المرايا. الارواح الشريرة لا تقرأه كما نقرؤه، بل تحس به كجمرة تخترق جلودها الرخوة. يرونه عدوا يفضح خيانتهم الاولى، اذ ما من بيت شعر صادق الا وكشف عن كذبة كونية كانوا شهودا على صناعتها. يخافونه اذا كتب بالصدق، ويستعملونه اذا كتب بالخداع. يعرفون ان الشاعر الصادق يستطيع ان يفتح جراحا في السماء، وان يجعل الملائكة تبكي، وان يقلب موازين العالم بكلمات لا يزيد عددها عن اصابع اليد. اما الشياطين، فهم اكثر دهاء. يتسللون الى الاوزان، يختبئون في المجازات، يوسوسون للشاعر المغرور بأن ما يكتبه وحي لا يشبه وحي البشر. يدفعونه ليمجد ذاته، لا الروح. يدفعونه ليحول الشعر من كشف الى استعراض، من نور الى دخان. لكنهم في داخلهم يعرفون، ان بيتا واحدا كتبه شاعر امين قد يحرق مئة صفحة من حيلهم. في ملكوت الجن، الشعر جزء من المعرفة المقدسة. هناك، لا يحتاجون الى لسان لينشدوه، فهم يبثونه في الريح، ويخزنونه في ذبذبات النار، ويستخرجونه من نغمة ماء يتساقط على حجر قديم. تقول الاسطورة هناك ان اول جنية وقعت في حب انسان لم تستطع ان تكلمه الا عبر قصيدة، فكتبتها على سطح القمر، وحين قرأها الشاعر، فهم العالم كله دفعة واحدة، ثم نسيه مع طلوع الفجر. هاروت وماروت، المعلقان بين السماء والارض، المنفيان من فردوس الطاعة، يحفظان قصائد لا يعرفها الا المنبوذون. لا يتحدثان الا شعرا، ولا يبكيان الا على اوزان البحور. يعرفان ان اللغة خيانة، لكن الشعر خلاص. يتذكران اول خطيئة، لا في فعلها، بل في كلماتها، في الاغواء الذي كان موزونا كأنما هو قصيدة من نار. السحرة لا يكتبون الشعر، بل يسحرونه. يأخذون وزنه ليصنعوا به تعويذة، يسرقون مجازه ليصنعوا مرآة ترى ما لا يجب ان يُرى. يهمسون بشطر غامض في آذان الملوك فيفسد الحكم، او يكتبونه على ورقة ويدفنونها في ليل مقبرة منسية فتتكلم الاموات. لكن هناك شاعر واحد، اذا وقف وقال بيتا صادقا، سقطت تعاويذهم كلها كأوراق خريف امام عاصفة غير مرئية. واما المنبوذون والمعدمون، فهم لا يرون الشعر فنا، بل خلاصا. هو اخر ما يملكون حين يأخذ العالم كل شيء. هو الصرخة التي لا تحتاج لمن يسمعها، والرسالة التي لا تحتاج لطابع بريد. يكتبونه على جدران الملاجئ، على راحات ايديهم، في هواء لا يراه احد. حين يجوعون، يكتبون. حين يبردون، يكتبون. حين يُنسَون، يتذكرهم الشعر كأنه الوحيد الذي لم ينسهم. لكن اذا كان الشعر بهذه القوة اذا كان ينفذ في تجاويف الروح كهواء خفيف لا يُرى ويوقظ في النفس اسرارا نائمة فلماذا لا يتغير الواقع لماذا لا ترتجف المدن ولا تنهار السجون ولا تتوقف الحروب عند سماع بيت واحد الجواب ليس في الشعر بل في الناس لان اكثرهم لا يصغون اصغاء القلب بل اصغاء العادة لانهم يخافون مما قد يكشفه الشعر في داخلهم من ظلال وكهوف لانهم اعتادوا ان يبنوا عالما من صمت مريح وحقائق مزيفة ولا يريدون لشاعر ان يوقظهم لان السلطة لا تخاف الشعر الا اذا خرج من الصفحة ودخل في الفعل والشعراء اما منفيون او مكسورون او منشغلون بمراياهم وحدها لذلك يظل الشعر كالنبوة يضيء لمن اراد ان يرى لكنه لا يجبر احدا على النور والسر الاعمق ان الشعر ليس فعلا خطيا ولا يقينيا بل كمومي في جوهره يشبه الجسيم الذي يوجد ولا يوجد في اللحظة ذاتها القصيدة مثل الالكترون تتحرك في مسارات احتمالية لا يمكن قياسها الا عندما تتجسد وحين تتجسد تفقد بعضا من سحرها الشعر في حالته النقية يعيش كذرة ضوء تنتقل بين الاكوان لا تخضع للزمان ولا تحتاج الى مكان الشعر فعل مراقبة حين يراه القلب يتحقق وان اهمله القلب يظل احتمالا متسربا في هوامش الوجود لا يتجسد الشعر لا يفعل كما تفعل المطرقة بل كالموجة يصطدم بالروح فان كانت مهيأة احدث فيها تغييرا وان كانت مغلقة مر من خلالها بلا اثر الشعر يشبه مبدأ الريبة في العالم الكمومي لا يمكن تحديد موقعه ومعناه معا لا يمكن القبض عليه بل فقط الدخول في احتماله الشاعر اقرب الى راصد كمومي كلما نظر الى المعنى تغير الشكل وكلما حاول ان يمسك الحقيقة طارت منه مثل فوتون حزين هذا هو السبب في ان الشعر لا يغير العالم لكنه يغير الوعي ومن تغير وعيه تغيرت ذراته ومعه ربما تغير الكون كله في صمت بطيء لا تدركه العيون

Jawad-elyosfi ads